كلية اللغة العربية


لمسة وفاء لأهل العطاء

    تحت ظلال الوفاء، لصانع الجيل، أكرم بها من سنوات عشناها في كلية اللغة العربية، في كنف أساتذة كرام، تحت قيادة شيخنا الكريم الأستاذ الدكتور بابكر البدوي دشين ــ رحمه الله ــ يعز المقام عن المقال، بيد أنَّ الذكريات تركض لتدلي بدلوها في مقام شيخنا (دشين) الأب الروحي لكل أساتذة وأستاذات الكلية، بل هو أب روحي لكل طلابه وطالباته.حيث تعلمنا منه الصبر وشيئا من الحكمة في مواجهة المواقف، فقد كان قلمه حاضرا شعرا ونثرا لتسطير المواقف التي ظلَّ صداه يتردد في دواخلنا . وأنسب مايناسب هذا المقام الكلمات الجميلة التي خطتها يد الدكتوره: آمال هاشم أحمد البرير (بنت عدنان) كما كان يحلو لشيخنا دشين أن يناديها؛ لحبها وتعلقها بهذه اللغة الشريفة اللطيفة إذ تقول:

يَاريشةَ القَلَمِ الأَصِيلِ تَدَفَّقِي
 

 

وَاكْتُبِي عَنْ صَاحِبِ القَلبِ النَّقِي
 

مَنْ كَانَ يَحْمِل هَمَّنَا كُنَّا بِهِ
 

 

جُمَلٌ مِن إيفائه المتدقق
 

حَدَّثِي عَنْ صَفْوِهِ وَنَقائِهِ
 

 

وَاكتُبِي عَنْ صِدقِهِ المُتَدَفِّقِ
 

يَازَهرةَ الأَمَلِ الوَرِيفِ تَأنَّقِي
 

 

بِمَجَالِسِ العِلمِ المُفِيدِ المُورِقِ
 

وَازْدَهِي بِنَضَارَةِ الفَجْرِ النَّدِي
 

 

وَانْثُرِي دُرَرَ الشُّعَاعِ المُشْرِقِ
 

عَجِزَ اليَرَاعُ ولمَّا يَسْتَرِيحُ لِيَنتَقِي
 

 

مِنْ صَفْوِهِ ذاكَ الجَمَالَ الرَّائِقِ
 

   ومن المواقف التي لاتنسى تلك المساجلات الجميلة بينهما ( الشيخ: دشين والدكتوره:آمال) إذ تقول: من ذكرياتي الجميلة في كليتي الأثيرة أني كتبت اسم الدكتور بابكر البدوي دشين على ظرف الامتحان هكذا: (دوشين) بالواو بعد الدال، فكتب ورقة صغيرة أرسلها مع الظرف كان فيها الأبيات التالية:

جَعَلْتُمْ لِي بُعَيدَ الدَّالِ وَاوًا
 

 

كَوَاوَاتِ الحِسَانِ أَرَدْنَ مَطْلَا
 

 

    فكان احتجاجا لطيفا منه على زيادة الواو. فكتبت له اعتذارا عن تلك الواو الزائدة قائلة:

أَيَا عَفوًا أَيَا أُستَاذُ مَهْلَا
 

 

إِذَا مَا زِيدَ حَرفُ الوَاوِ جَهلَا
 

فَوَاللهِ الَّذِي خَلَقَ البَرَايَا
 

 

لَمْ نَقْصِدْ بِذَاكِ الوَاوِ مَطْلَا
 

وَكَانَ الظَّنُ أَنَّ الوَاوَ أَصْلٌ
 

 

وَسُوءُ الفَهْمِ لَيسَ يُعَدُّ أَصْلَا
 

لِذَا فَاجْعَلْهُ وَاوًا لِلوَلَاءِ
 

 

وَوَاوًا لِلْوَفَاءِ فَذَاكَ أَعْلَى
 

وَإِنَّا لِلْوَلَاءِ قَدْ حَفِظْنَا
 

 

يَظَلُّ وَلَاؤُنَا عَلًّا وَنَهْلَا
 

وَقَالُوا فِي البَلَاغَةِ وَالمَعَانِي
 

 

إِنَّ الوَاوَ ذَاكَ يَكُونُ وَصْلَا
 

وَإنَّ القَطْعَ دُونَ الوَاوِ فَصلٌ
 

 

وَلَسْنَا مَنْ يَوَدُّ الحُكْمَ فَصْلَا
 

سَنَحْذِفُ وَاوَنِا لَكِنْ سَيَبْقَى
 

 

وِصَالُ عَرُوضِكُمْ نَقْلًا وَعَقْلَا
 

 

فقال ــ رحمه الله  ــ

تُسَاجِلُنِي بَنَاتِي فِي قَوَافٍ
 

 

صَبَبْنَ بِهَا عَلَيَّ اليَومَ سَجْلَا
 

 

أَلَا أَحْبِبْ بِهِ سَجْلًا مُصَفَّى
  

 

شَرِبْتُ بِنَهْلِهِ كَأْسًا مُعَلَّى
 

 

 

هكذا كان شيخنا وأبانا مع بناته وزميلاته أبا روحيا بمعنى الكلمة:

إنه الشيخ الأستاذ الدكتور: بابكر البدوي دشين بن أحمد، من مواليد مدينة ود مدني عام 1937م كان منارة سامقة في جامعة أم در مان الإسلامية، وفي مجمع اللغة العربية، وفي مواقع شتى في المجتمع.

جده: (دشين) من أحفاد محمد بن مدني الملقب بالسني وبه سميت مدينة (ود مدني)، ودُشين هو القاضي المشهور بالعدالة في تاريخ السودان، وقد وصف بـ(قاضي العدالة المابميل للضلالة) له ترجمة في طبقات ود ضيف الله.

    درس بخلوة ود الفكي بود مدني، ثم المرحلة الإبتدائية بمعهد ود مدني العلمي، ثم أكمل المرحلة الثانوية بمعهد أم درمان العلمي عام 1956م، وحصل على بكالريوس اللغة العربية من كلية الآداب بجامعة القاهرة فرع الخرطوم، عام 1960م، وحصل على ماجستير اللغة العربية من كلية الآداب بجامعة الخرطوم عام 1970م، تخصص الأدب، ثم حصل على الدكتوراه في الأدب العربي من جامعة الخرطوم عام 1977م .

   قام بالتدريس في عدد من المدارس الثانوية العليا بوزارة التربية والتعلبيم بالسودان، كما درّس بعدد من الجامعات داخل وخارج السودان، اختير عميدا لإنشاء كلية اللغة العربية بجامعة أم درمان الإسلامية عام 1992م وعُيّن في درجة أستاذ كرسي اللغة العربية بجامعة أم درمان الإسلامية (أستاذا ممتازا مدى الحياة).

  في عام 2001م .(Emeritus professor )  

 ومن أبياته ــ رحمه الله تعالى ــ عن الجامعة الإسلامية:

للهِ جَامِعَةٌ تَفَرَّدَ نَهْجُهَا
       

 

رَعَتِ التُرَاثَ بِحِكْمَةٍ وَتَفُهُّمِ
 

فِيهَا الأَصَالَةُ وَالحَدَاثَةُ صًفّيَتْ
    

 

مِنْ كُلِّ ثَوبٍ لَايَلِيقُ بِمُسْلِمِ
 

أَكْرِمْ بَأَشْيَاخٍ تَوَلَّوا أَمْرَهَا
      

 

مِنْ كُلِّ شَهْمٍ بِالوَقَارِ مُعَمَّمِ
 

طُوبِى لِمَنْ يَتْلُو القُرَآنَ تَهُزُّهُ
      

 

آيُ الجِنَانِ آيُ نَارِ جَهْنَّمِ
 

مُتَرَسِّمًا سَنَنَ النَّبِيِ وَهَدْيِهِ
     

 

طُوبَى لَهُ مِنْ تَابِعٍ مُتَرَسِّمِ
 

صَلَّى الإِلَهُ عَلَى المُشَفَّعِ فِي الوَرَى
 

 

يَومَ التَغَابُنِ وَالمَقَامِ الأَعْظَمِ
 

 

 

     نعم  رحل عنّا شيخنا دشين!  وكما ذكر شيخناالأستاذ الدكتور علي أحمد بابكر : "فاضت النفوس حزنا وأسى عندما أنشبت المنية أظفارها في ذلك البدر المنير، فأسلمته إلى ذلك السكون المهيب، وأودعته ضجعة الموت؛ المورد الذي يرده كل حي. وجالت الأبصار في مواقع صولاته؛ في ساحات العلم وقاعاته، وفي مجمع اللغة العربية وقاعاته ودوائره العلمية، وفي منابر العلم والأدب والثقافة، وفي دروب النفوس الزكية النقية، وفي مجالس السمو والرفعة ورياحينه، وفي الأفق الفسيح والسماء الرحيب، فلم تجده؛ ولكن النفوس أحسته بين صفوفها وفي صفحات الكتب وبين عويص المفردات والعبارات وعلى مراق الآداب والفضائل يستريح في سويداء القلوب ويشمخ عنوانا لمجد العلماء.... وقفت عليك يادشين بعد صعود روحك الطاهرة إلى بارئها، وأنت في ذات مكانك الذي اعتدت أن أراك فيه، وحولك الكتب منثورة، تصول في معركتها، تخوض لججها، تستخرج دررها لتهديها في سخاء لطلاب العلم الذين أحبوك وحملوك في قلوبهم، نظرت إليك فرأيت الطمأنينة ترتسم على وجهك، فملأني شعور بأن ملائكة الرحمن حاضرة من حولك" .

 

ومن أبلغ ماقيل في رثائه: مرثية طويلة للشاعر بشير عبد الماجد فاقت الثلاثين بيتا مطلعها:

لطمت عليك خدودها الفصحى التي    

 

فقدت بفقدك قبلة القصَّاد

وبكى النحاة عليك كنت نديمهم          

 

ورأوك بينهم من الأنداد

أما العروض فشيعتك بحوره            

 

مفجوعة الأسباب والأوتاد

يسرت أنت عسيره وبذلته               

 

للدارسين وطاب للوراد

 

 

ذاكرا كل الأماكن التي كان يرتادها شيخنا :

والمجمع اللغوي أظلم ليله          

 

مذ غبت عنه بفكرك الوقاد

والجامعات عليك طال نحيبها        

 

قد كنت فيه واحد الآحاد

والمعهد العلمي كنت زعيمه        

 

زمن الحروب عليه والأحقاد

في الفرع كنت أمامنا وإمامنا         

 

ولركبنا في البيد كنت الحادي

 

 

وختم مرثيته ــ كما كان يفعل شيخنا ــ بالصلاة على الحبيب المصطفى والدعاء له قائلا:

وكمثلما قد كنت تفعل دائما      

 

أتلو الصلاة على الشفيع الهادي

صلّى  عليه الله جلّ جلاله

 

ماغردت ورقاء في الآماد

والله أسأل أن تكون جليسه         

 

في صحبة الأبرار والعبّاد

 

 

ألا رحم الله أبانا دشين المتقي، اللهم اقبله قبولا حسنا في عليين، اللهم إنّ دشينا قد جاءك راجيا رحمتك، فاشمله بها ياودود، ونحن نرفع الأكف داعين له بمقعد صدق عندك، يامليك يامقتدر، أللهم: بدد وحدته، وآنس وحشته، وتقبل حسناته، وتجاوز عن سيئاته، ونور قبره واجعله روضة من رياض الجنة، وأنزله مع النبيين والصديقين والشهداء.